بقلم الأستاذ / احمد خطاب المحامي
الزمن ليس مجرد عقارب تتحرك ، ولا أرقام تتبدل على ساعةٍ معلّقة في الجدار ، بل هو نهرٌ خفيّ يجري داخلنا ، يغيّر ملامح أرواحنا قبل أن يغيّر وجوهنا . إنه الكائن الوحيد الذي لا نراه لكننا نشعر بثقله في كل لحظةٍ تمر ، وفي كل نفسٍ نأخذه، وفي كل ذكرى نحملها أو نحاول دفنها .
الزمن لا يرحم أحدًا ، لكنه أيضًا لا يظلم أحدًا . يمنحنا المسافة الكافية بين الألم والشفاء ، بين الفقد والتقبّل ، بين ما كان وما سيكون . وفي تلك المسافة بالذات ، يولد الصراع الأبدي بين الذاكرة والنسيان .
الذاكره بيت الماضي الذي لا يُغلق بابه
الذاكرة ليست صندوقًا نحفظ فيه ما نشاء ، بل هي كائن حيّ ، يختار متى يفتح دفاتره ، ومتى يدفنها في أعماق الصمت . قد تُحيي فينا مشهدًا قديمًا لمجرّد رائحةٍ عابرة ، أو نغمةٍ سمعناها صدفة ، فتعود الصور بألوانها وأصواتها ومشاعرها كأنها لم تغب يومًا .
لكن الذاكرة ليست عادلة دائمًا . إنها تُضخّم لحظات الفقد ، وتُعيد رسم الجراح بحدةٍ أكبر مما كانت عليه . ومع ذلك لولاها لما عرفنا من نحن ، ولما كان لنا ماضٍ نحتمي به حين يبرد الحاضر .
الذاكرة هي هوية القلب ، تحفظ وجوه الذين أحببناهم ، وتُبقي بريق اللحظات التي صنعتنا كما نحن الآن .
* أما النسيان فليس خيانةً للذكريات كما نظن ، بل هو حماية للنفس من الغرق في بحرها . لو بقي كل شيء حاضرًا في أذهاننا ، لعشنا في دوامةٍ لا تنتهي من الألم والحنين . النسيان لا يمحو كل شيء، بل يُخفيه بلُطفٍ حتى نتمكّن من العيش ، يضع مسافة بيننا وبين ما يوجعنا ، فيتحوّل النزف إلى ندبة ، والوجع إلى درس .
هو كالغيم الذي يحجب بعض الضوء كي لا نحترق ، وكالليل الذي يمنحنا سكونًا بعد نهارٍ طويلٍ من الضجيج . النسيان هو عقل الزمن، والذاكرة هي قلبه ، وبينهما تسير حياتنا متأرجحة بين العقل والعاطفة ، بين ما نريد أن نتذكّره ، وما يجب أن ننساه .
تدور في أعماق كل إنسان معركة لا يشهدها أحد :
هل نُبقي الذكريات حية لتمنحنا المعنى؟ أم نتركها تموت لتمنحنا السلام؟
قد نُخفي وجعنا بالنسيان ، لكن شيئًا فينا يصرّ على التذكّر ، كأن القلب يرفض الاعتراف بأن ما كان قد انتهى .
وفي المقابل ، قد نتمسّك بالماضي لدرجةٍ تعيقنا عن المضي قُدمًا ، فنكتشف أن الذاكرة الجميلة قد تحولت إلى قيدٍ من حرير .
الزمن لا يتوقف لينتظر قرارنا . إنه يمضي ، يسحب معه ما ننساه ، ويترك فينا ما لا يريد أن يرحل . في كل يومٍ نحيا قليلاً ونفقد قليلاً ، حتى نصبح نحن أنفسنا مزيجًا من ما تذكّرناه وما نسيناه .
حين نتأمل بعمق ، ندرك أن الذاكرة والنسيان ليسا نقيضين ، بل جناحين متكاملين لتوازن الروح . الذاكرة تمنحنا الجذور ، والنسيان يمنحنا الحرية . فمن دون ذاكرة نصبح بلا ماضٍ ، ومن دون نسيان نصبح سجناءه .
الزمن في جوهره ، ليس عدوًا للإنسان ، بل هو معلمه الصامت . يعلمنا أن الجرح لا يلتئم إلا بالوقت ، وأن الغياب لا يُحتمل إلا حين يتسلّل النسيان برفق ، وأن الحبّ لا يُنسى تمامًا ، بل يتحوّل شكله في ذاكرتنا كما تتحول الفصول في الطبيعة .
في النهاية ، لا يمكننا أن نوقف الزمن ، ولا أن نختار ما نتذكر وما ننسى . نحن فقط نحاول أن نجد توازننا داخل هذا الصراع . وربما تكمن الحكمة في أن نقبل الاثنين معًا أن نحتفظ بما يبهج القلب ، ونترك ما يثقله يرحل .
فالزمن لا يأخذ شيئًا إلا ليمنحنا شيئًا آخر ، لا يمحو إلا ليكتب من جديد ، ولا يُنسينا إلا لنستطيع الاستمرار .
وهكذا ، يظل الإنسان بين الذاكرة التي تضيء ماضيه ، والنسيان الذي يفتح أمامه طريق المستقبل ، يسير في رحلةٍ لا تتكرر نحو ذاته الحقيقية.