مقالات
أخر الأخبار

*خوفٌ يقتاتُ على قلبي*

 

كتبت/ نهى محمد عيسى


 

الخوفُ ليسَ مجردَ شعورٍ عابرٍ يزورنا حينَ تضطربُ الحياة ، بل هو جرح غائر يسكن أرواحنا هو ظِلٌّ ثقيلٌ يسكنُ الزوايا المظلمةِ من أرواحنا ، يكبرُ كلّما أغمضنا أعيننا هربًا منه . أنه ينمو في زوايا القلب التي لم تطلها طمأنينة ، ويتغذى على لحظات ضعفنا ،يسرق منا النوم حين يزحف إلينا في منتصف الليل ، يهمش بأشدِّ الأفكار وجعًا ،يزرع في دروبنا أشباحًا من القلق والخيبة .

 إنَّه الوَحشُ الذي يُتمتمُ في أذنِك وأنتَ وحدَك ، يُمسِكُ بيدِك حينَ تحاولُ الهرب ، يُغلقُ أمامَك الأبوابَ ويُلقي بمفاتيحِ الطمأنينةِ بعيدًا .

 كم مرةٍ ارتجفَ قلبُك خوفًا ؟ 

كم مرةٍ خذلكَ صوتُك وأنتَ تحاولُ الصراخ ؟

 كم مرةٍ ابتلعتَ وجعَك خوفًا من أن يُكشفَ ضعفُك ؟

 

 

 

أخافُ من الليلِ حينَ يبتلعُ آخرَ خيطِ ضوء، من العتمةِ التي تحاصرُ جدرانَ صدري، من الطرقاتِ التي تسيرُ بي إلى حيثُ لا أريد. أخافُ من صوتِ الخذلانِ حينَ يأتي على هيئةِ صمتٍ مُطبق، ومن الأيادي التي تمتدُّ ولا تُمسكُ بي، من العيونِ التي تنظرُ إليَّ ولا تراني، من الأبوابِ التي أطرقُها فلا تُفتح، ومن الطرقِ التي أسيرُ فيها وحدي، فلا أسمعُ سوى صوتِ أنفاسي المضطربة.

 

أخافُ من الذكرياتِ التي تُعيدُني إلى لحظةِ انكسارٍ لم أُشفَ منها بعد، من الوجوهِ التي عبرَت ولم تلتفت، من الحنينِ الذي يُنادي أسماءَ من رحلوا ولا يجيبُه أحد. أخافُ من الوعودِ التي قيلتْ دونَ نيةٍ للبقاء، من الكلماتِ التي كانَ يُفترضُ أن تُقالَ ولم تُقل، من الرسائلِ التي كُتبتْ ولم تُرسَل، ومن اللحظاتِ التي تلاشتْ دونَ أن أُمسكَ بها.

 

أخافُ من الفقدِ أكثرَ من خوفي من الموتِ نفسِه، فالموتُ قدرٌ محتوم، لكنَّ الفقدَ موتٌ على قيدِ الحياة، جُرحٌ لا يلتئم، ثقبٌ في القلبِ لا يسُدُّه شيء. أخافُ أن أستيقظَ على خبرٍ يزلزلُ روحي، أن أفقدَ من أحبُّهم واحدًا تلوَ الآخر، أن تبقى الأماكنُ مليئةً بأصواتِهم لكنَّهم ليسوا فيها، أن أتجوَّلَ بينَ الذكرياتِ وأمدُّ يدي فلا أجدُ سوى الفراغ. أخافُ أن أضعَ رأسي على وسادتي وأستيقظَ على عالمٍ ناقصٍ، أن أفقدَ قطعةً من روحي وأعيشَ نصفًا بلا معنى.

 

أخافُ من الموتِ لا لأنَّه النهاية، بل لأنَّه يفصلُ بيننا وبينَ من نحبُّ دونَ استئذان، يأخذُ أرواحَهم ويبقي أسماءَهم محفورةً في قلوبِنا كندوبٍ لا تمحى. أخافُ أن أرحلَ دونَ أن أقولَ كلَّ ما أريد، دونَ أن أودّعَ من يجبُ أن أودّعَهم، أن أتركَ خلفي قلوبًا تتساءلُ عن كلماتي الأخيرة، أن أصبحَ ذكرى تبكيها العيونُ وتوجعُ بها القلوبُ.

 

وأخافُ من الفراقِ أكثرَ من خوفي من أيِّ شيء، لأنَّه يأتي ببطءٍ ثم يصفعُنا بقوة. أخافُ من تلكَ اللحظةِ التي يتحوَّلُ فيها من كانَ جزءًا من يومي إلى شخصٍ غريب، من أن يُصبحَ الحديثُ ثقيلًا بينَ قلبَين كانا لا يصمتان، من أن يتحوَّلَ الحبُّ إلى ذكرى، واللقاءُ إلى حلمٍ بعيد. أخافُ أن أقفَ على رصيفِ الوداعِ وأراقبَ من كانَ لي كلَّ شيءٍ وهو يبتعد، ولا أملكُ سوى أن أبتلعَ وجعي وأدَّعي أنَّني بخير.

 

أخافُ من الحبِّ حينَ يصيرُ عذابًا، من الاشتياقِ حينَ يتحوَّلُ إلى خنجر، من الوداعِ حينَ يُصبحُ قدرًا. أخافُ من الأيامِ حينَ تأخذُ منّا من نُحبُّ ولا تعيدُهم، من الأحلامِ حينَ تتكسَّرُ تحتَ وطأةِ الواقع، من القلوبِ حينَ تتحجَّر، ومن الصدورِ التي كانتْ دافئةً وأصبحتْ باردةً كالجليد.

 

الخوفُ ليسَ مجرَّدَ شعور، إنَّه السجَّانُ الذي يقيدُنا بأسلاكه الشائكة، الوحشُ الذي ينهشُ أعمارَنا دونَ أن نشعر، الغصةُ التي تسكنُ في حناجرِنا دونَ أن نستطيعَ البوح. أحيانًا أظنُّ أنَّ الحياةَ كلَّها دائرةٌ مغلقةٌ من الخوف، نخافُ من البدايةِ كما نخافُ من النهاية، نخافُ من الحبِّ كما نخافُ من الخذلان، نخافُ من اللقاءِ كما نخافُ من الفراق. 

والخوفُ الأكبرُ من كلِّ ذلك… أن نعتادَ الخوف، فنعيشُ العمرَ كأشباحٍ تخشى حتى ضوءَ النهار .

وأشدَّ ما أخشاه هو أن يتحول الخوف إلى جزءٍ منّي ، أن أعتادَهُ كما يعتاد الليلُ عتمته ، أن يُصبحَ نبضي متقطِّعًا علي إيقاعِ قلقٍ لا يهدأ ، أن أعيش العمرَ هاربًا من شئٍ يسكنُني ، أن أستيقظَ يومًا فلا أجدَ في داخلي إلَّا الخوف .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى